للدولة المصرية ثلاث نطاقات حيوية –كما أراها- وهي نطاق القوة ويشمل حدودها البحرية والأرضية والتي تحميه قواتها المسلحة ، والثاني هو ظل القوة ويشمل الحدود الإستراتيجية الأولى وتمتد حتى أخر نقطة جغرافية وصلت إليها الإدارة المصرية وجيشها على مر العصور ، وتبدأ من بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل جنوبا وتشمل الصومال وأريتريا وبعض مناطق أثيوبيا فضلا عن السودان ، وشمالا حتى جنوب الأناضول وديار بكر بما فيها سوريا ولبنان وفلسطين وشرقا الحجاز والجزيرة العربية واليمن ، وغربا حتى خليج سرت بما يشمل أقليم برقة الليبي كله وحتى نهايته في الجنوب الليبي شاملا سلسلة جبال تبستي وأوزو ، أما نطاق إمتداد الظل فهو الذي يمتد جنوبا حتى وسط القارة الأفريقية جنوبا شاملا زامبيا وموزمبيق وتنزانيا، وشرقا بما يتجاوز الخليج العربي ممتدا حتى جمهوريات لآسيا الوسطى ، وغربا حتى موريتانيا والسنغال ويضم تشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو والذي يتمدد فيه النفوذ الثقافي والديني والعرقي المصري شاملا القبائل العربية الحسانية التي تعد إمتدادا لجذورها في مصر (جعافرة و أشراف ومحاميد ووالوافي وأولاد سليمان والعليقات ) .
فضلا عن الفلان التي تذهب بعض مدارس التاريخ وتصنيف الأجناس إلى مصريتهم وهو ماسمعته من كثيرين منهم باحثين وإخباريين وشيوخ في بعض الدول التي يتواجدون فيها ( موريتانيا ومالي وبوركينا والنيجر ) ، وكذلك قبائل السوننكى الذين يقولون بأصولهم المصرية وقدومهم من أسوان ، فهم -كما فسرها لي صديقي المفكر والكاتب والوزير الموريتاني السابق محمد الأمين – أسواننكا أي القادمون من أسوان أو أبناء أسوان ، وعلى هذه المحاور بدأت العودة المصرية إلى أفريقيا في نطاق ظل القوة وإمتداد الظل بمشروعات ومساعدات واتفاقيات هامة ، الإتفاق مع الحكومة الصومالية و التواجد العسكري المصري في الصومال هو تفعيل نظريتي ظل القوة وإمتداد الظل ، كما أن الوجود العسكري المصري في الصومال طمأن الأشقاء في الصومال بأقاليمه الثلاث ، ولم يلتفت الشعب فيها إلى صراخ لرئيس الوزراء الأثيوبي ولا انزعاجه وتهديداته ، وفي ذلك اتفق الصوماليين مع المعارضة الأثيوبية (الأمهرة والتيجراي ) على التشفي في أبي أحمد ورفض تصريحاته والإستهانة بها .
أو كما قال لي أحدهم من أديس أبابا : “أبي أحمد يصرخ الآن ويهدد عندما جاء الجيش المصري ولم يفعل ذلك عندما جاءت تركيا بجنودها وأقامت أول قاعدة عسكرية لها خالرج حدودها ” ، وهوما يعني الخوف من مصر والقلق من تواجدها على مستقبله السياسي وليس على أثيوبيا كدولة التي يمكن أن تتعاون مع مصر في كل الملفات بدلا من هذا العداء والتناحر ، وهو قول صادق خصوصا أن مستقبل أبي أخمد داخل أثيوبيا نفسعا أصبح في خطر ، وهو يلاقي معارضة خطرة حاليا وتحركات مسلحة لقوى وميليشيات عسكرية أثيوبية قد تؤدي إلى تفكيك أثيوبيا .
ومن تأكيدات استعادة مصر ريادتها في نطاق ظل القوة مخالفة الترتيب البروتوكولي في اللقاء الثلاثي الذي ضم الرئيس السيسي مع شقيقيه رئيسا أريتريا و الصومال ، حيث درجت الأعراف على أن يكون الرئيس المضيف وسط الرؤساء في أي جلسة أو وقفة تلتقط فيها الصور وعليه كان يجب أن يتوسط الرئيس الأريتري الرئيسين المصري والصومالي ولكن ماحدث أن الرئيس السيسي توسط الرئيسين ، وهوالذي ألقي بيان القمة أو التصريح عنها ، ما يؤشر إلى قبول الجميع بريادة مصر للمنطقة . أما نتائج القمة فجاءت تأكيد لإستراتيجية مصر ،الإتفاق على وحدة أراضي الصومال و ترتيبات أمن البحر الأحمر وهو ما يعني منع أبي أحمد من الوصول إليه وتبخر أحلامه وضياع جهوده في الإتفاق مع أقليم أرض الصومال على تأجير ساحل وميناء بربرة ، و إلتزام الدول الثلاث بوحدة أراضي السودان ووقوفهم مع الجيش السوداني بما يقطع للطريق على أبي أحمد في مساعدة ميليشيات حميدتي ، وهي رسالة للدول والقوى الإقليمية على أن مصر تعمل لأمنها القومي بغض النظر عن علاقات هذه الدول بها أو ببعضها البعض مثل أوغندا وكينيا وجنوب السودان والسعودية والإمارات ، وهي خطوات عملية فككت تحالفات أبي أحمد مع هذه الدول و أدت قبل ذلك إلى إلغاء مؤتمر دول حوض النيل اللي كان مقررا له إعلان تفعيل اتفاقية «عنتيبي» بعد تراجع أوغندا ، وفي جنوب السودان قدمت مصر مساعداتها وخدماتها في أغلب المجالات خصوصا الصحة والتعليم والري كما في دول أخرى ، و جاء إنسحاب الجيش السوداني من مناطق مرور خطوط النفط جنوب السوداني الذي يصدر عبر ميناء بور سودان ودخول ميليشيات حميدتي إلى هذه المناطق وما تلا ذلك من ضرب خطوط الأنابيب وتوقف تصديره وانعكاس ذلك على جنوب السودان إقتصاديا بالتدهور الحاد حيث لا تمتلك الدولة الوليدة أي مصادر للدخل سواه ، وبالتالي لم يعد أمام سلفا كير سوى ترضية مصر والسودان وعدم اتخاذ أي قرارات أو القيام بتحركات تضر أمنهما القومي .
وانعكس ذلك على أوغند سلبا حيث تعتمد جنوب السودان كليا في استهلاكاتها على البضائع القادمة من أوغندا وبعضها من الإنتاج الأوغندي والتي كان يسهم في إنتعاش إقتصاد أوغندا وتمر أيضا عبر كمبالا من كينيا فتسهم في إنتعاش إقتصادها ، كما أن كينيا – التي تحتل جزء من الأراضي الصوالية ، مانديرا – تعاني من وضع إقتصادي هش ومتدهور تسبب في مظاهرات شعبية وقلاقل أمنية قبل شهرين وكبار الرأسماليين والتجار فيها صوماليين في نيروبي ومومبسا ، فضلا عن أن 36 من أعضاء برلمانها من هذا الأقليم المحتل وتخشى حكومة كينيا تأجيج النعرة الوطنية والحنين لوطنهم الأم
أما عن الوضع الدولي فإن أزمات العالم تلقي بظلالها على وضع أبي أحمد حيث ضعف دوره الإقليمي والدولي بشكل كبير نتيجة الأزمات الداخلية بين شوب الدولة الأثيوبية متعددة الأعراق والأهواء واللغات والديانات عكس مصر واحدة اللغة والعنصر وحتى الثقافة .
الدور المحوري لمصر وتشابكها وتدخلها وإشرافها على أهم الملفات في المنطقة أعظم وأهم بكثير جدا من الدور الأثيوبي ما يمنع المحور الأطلسي الغربي (أوربا وأمريكا ) والمحور الأوراسي ( الصين وروسيا والهند وكوريا ) من المغامرة بعلاقتهما بمصر في هذه المخاضة الزمنية التي يشهد العالم فيها التحولات الجذرية المزلزلة ، أما الوضع في الداخل الأثيوبي فهو معقد ومتصدع للدرجة التي قد تسهم في تفكيك الدولة وهو ما أظنه سيحدث خلال التحولات التي ستتم في المنطقة بعد اشتعال الحرب العالمية التي دارت عجلتها.