بعد أكثر من سبعة عقود على تبني الولايات المتحدة الأمريكية سياسة “ملء الفراغ” عقب الحرب العالمية الثانية، يبدو أن واشنطن اليوم في طريقها لتغيير هذه الاستراتيجية، خاصة بعد الانسحاب المفاجئ من العراق وأفغانستان.
هذا الانسحاب لم يكن مجرد خطوة سياسية عادية، بل جاء ليؤكد أن أمريكا لم تعد ترى الشرق الأوسط ضمن أولوياتها الجيوسياسية، وبدلاً من ذلك، باتت تركز بشكل أكبر على الحرب الاقتصادية مع الصين.
لكن ماذا يعني هذا التراجع الأمريكي بالنسبة للمنطقة؟ ولماذا أصبح العالم، وخاصة الشرق الأوسط، مهددًا بموجة ثالثة من العنف تقودها حركة طالبان التي عادت إلى الساحة بسرعة مذهلة بعد الانسحاب الأمريكي؟
انسحاب مفاجئ.. وفوضى مرتقبة
قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان بعد 20 عامًا من التدخل العسكري، فتح الباب أمام طالبان للسيطرة على البلاد في غضون ساعات، وسط مشاهد أشبه بأفلام هوليوود، حيث فرّ الآلاف من الأفغان إلى مطار كابول في محاولة للهروب من حكم الحركة، حتى أن البعض سقط من الطائرات العسكرية أثناء محاولتهم الفرار.
لكن الأخطر من ذلك، أن هذا الانسحاب لم يكن مجرد إنهاء لحرب طويلة، بل كان بمثابة إعطاء قبلة الحياة للجماعات الإرهابية، إذ أصبحت أفغانستان مجددًا مركزًا لتفريخ المتطرفين، تمامًا كما حدث في التسعينيات حينما أطلقت طالبان الموجة الأولى من الإرهاب عبر تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ثم جاء تنظيم داعش في الموجة الثانية، والآن نحن على أعتاب الموجة الثالثة من العنف العالمي.
من “مبدأ أيزنهاور” إلى الانسحاب الكبير
عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تبنت واشنطن سياسة “ملء الفراغ” التي أطلقها الرئيس دوايت أيزنهاور عام 1957، بهدف مواجهة الزحف السوفيتي الشيوعي في المناطق التي انسحبت منها القوى الاستعمارية التقليدية مثل بريطانيا وفرنسا. كانت هذه السياسة تهدف إلى حماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا عبر التدخل العسكري والاقتصادي، وهو ما ظهر بوضوح في مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا.
لكن اليوم، وبعد سنوات من التدخل العسكري في المنطقة، يبدو أن واشنطن وجدت أن الكلفة لم تعد تستحق العناء، فقررت الانسحاب، لتترك فراغًا تستعد الصين وروسيا لملئه، في ظل ترقب دول الشرق الأوسط لهذا التحول الاستراتيجي.
أزمة اللاجئين.. مخاوف أوروبية من “تسونامي بشري”
بعد سيطرة طالبان، انفجرت أزمة اللاجئين الأفغان، حيث توافد الآلاف إلى الدول المجاورة، بينما انقسم الموقف الأوروبي بين الرفض والاحتواء. ففي حين حذرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من استقبال موجة جديدة من اللاجئين على غرار ما حدث مع السوريين عام 2015، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضرورة منع “موجات هجرة واسعة” قد تساهم في انتشار التطرف.
في المقابل، اقترحت بعض الدول، مثل النمسا، إنشاء مراكز لاستقبال اللاجئين في دول الجوار، بينما طالب الاتحاد الأوروبي بفتح “ممرات إنسانية” لاستيعاب الفارين من أفغانستان.
إرهاب عابر للحدود.. هل يعود داعش؟
مع انسحاب القوات الأمريكية وعودة طالبان إلى الحكم، تزايدت المخاوف من تنشيط خلايا داعش في سوريا والعراق ومنطقة الساحل الإفريقي، حيث باتت هذه التنظيمات تستغل حالة الفوضى لتوسيع نفوذها، مما يهدد أمن واستقرار المنطقة بأكملها.
ختامًا.. الشرق الأوسط في مفترق طرق
رحيل أمريكا عن الشرق الأوسط يترك فراغًا استراتيجيًا كبيرًا، لكن الأهم من ذلك هو أن هذا الفراغ لن يبقى شاغرًا، فالصين وروسيا تتحركان بالفعل لفرض نفوذهما، بينما تظل المنطقة مهددة بموجات عنف جديدة، وسط ارتباك أوروبي في التعامل مع أزمة اللاجئين، وقلق دولي من تنامي الجماعات الإرهابية.
فهل نشهد قريبًا تحولًا جذريًا في موازين القوى العالمية؟ أم أن سياسة “ملء الفراغ” ستعود بثوب جديد؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة.