في تطور تشريعي غير مسبوق، صدّق السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي على قانون الإجراءات الجنائية الجديد بعد موافقة مجلس النواب، وذلك بعد أن أعيد النظر في المواد التي كانت محل اعتراض رئاسي، حيث تم تعديلها بشكل يحقق الغاية الدستورية من العدالة، ويرسّخ مبادئ حقوق الإنسان، ويستجيب لمتطلبات الواقع العملي، ويضمن التطبيق السليم والفعّال للقانون.
هذا القانون يمثل نقلة نوعية في مسار العدالة الجنائية المصرية، فهو ليس مجرد تعديل في النصوص، بل هو إعادة بناء فلسفة الإجراءات الجنائية على أساس احترام الحقوق والحريات، دون الإخلال بحق الدولة في مكافحة الجريمة وحماية الأمن العام.
ويُعد هذا القانون بمثابة خطوة تأسيسية لمرحلة جديدة من مراحل التطوير التشريعي في عهد الجمهورية الجديدة، التي تضع الإنسان في قلب اهتمامها، وتوازن بين متطلبات الأمن ومبادئ الحرية والمسؤولية.
أولًا: فلسفة القانون الجديد
القانون جاء ترجمة عملية للتوجيهات الرئاسية المتكررة بضرورة تطوير منظومة العدالة وتحقيق التوازن بين حقوق الفرد ومصلحة المجتمع.
وقد أوضح السيد الرئيس من قبل أن “قوة الدولة تُقاس بقدرتها على إنفاذ القانون بعدالة، لا بكمية القوانين ذاتها”، وهو ما تجسد بوضوح في هذا التشريع.
فالهدف لم يكن زيادة العقوبات أو تشديد الإجراءات، بل على العكس تمامًا، تم التركيز على الضمانات القانونية للمتهم، وتقييد سلطات الحبس، وتعزيز حضور المحامي، وتوسيع نطاق الرقابة القضائية، بما يحول دون أي انتهاك لحقوق الإنسان تحت أي مبرر.
ثانيًا: موعد التطبيق واستعداد المؤسسات
نص القانون على بدء العمل به في أول أكتوبر 2026، أي مع بداية العام القضائي الجديد،
وذلك إيمانًا من المشرّع بضرورة منح مؤسسات الدولة — من قضاة، وأعضاء نيابة عامة، وضباط، ومحامين — الوقت الكافي للتدريب والإعداد الفني والمعرفي للتعامل مع الأحكام الجديدة.
كما ستُنشأ مراكز خاصة للإعلانات الإلكترونية والهاتفية لتسهيل التواصل والإخطار القضائي، في خطوة تؤكد على التحول الرقمي في العدالة المصرية.
ثالثًا: تعزيز الحماية الدستورية للمساكن
أكد القانون على أن حرمة المسكن مصونة، ولا يجوز دخوله إلا في حالات استثنائية محددة مثل:
وجود استغاثة داخل المسكن،
أو وقوع حريق أو غرق،
أو أي خطر داهم يهدد الأرواح.
وهذا النص يترجم بوضوح المادة الدستورية التي تحمي خصوصية الأفراد وتمنع أي تدخل دون مسوغ قانوني واضح.
رابعًا: ضمان حضور المحامي أثناء التحقيق والاستجواب
من أبرز الإصلاحات التي حملها القانون إلزام جهات التحقيق بحضور المحامي أثناء استجواب المتهم، خاصة في الحالات التي يخشى فيها على حياته أو سلامته، كما قيد القانون سلطة إيداع المتهم في أماكن الاحتجاز، بأن يكون ذلك لأسباب محددة وبمدة مؤقتة وتحت رقابة قضائية صارمة.
ولأول مرة، أتاح القانون للمتهم الحق في الطعن على أمر الإيداع أو تمديده، وهو ما يرسّخ مبدأ الحق في الدفاع والرقابة القضائية على كل إجراء يمس الحرية الشخصية.
خامسًا: بدائل الحبس الاحتياطي – توسع غير مسبوق
لعل أبرز ما يميز القانون هو مضاعفة بدائل الحبس الاحتياطي من 3 إلى 7، بما يتيح للنيابة العامة والمحكمة اختيار الإجراء الأنسب دون اللجوء مباشرة إلى الحبس.
ومن بين هذه البدائل:
1. تقييد حركة المتهم في نطاق جغرافي محدد لا يغادره إلا بإذن النيابة العامة.
2. منعه من الاتصال أو مقابلة أشخاص معينين على صلة بالقضية.
3. منعه من حيازة أو إحراز الأسلحة النارية أو الذخيرة، مع إلزامه بتسليمها إلى قسم الشرطة.
4. إخضاعه لوسائل المراقبة التقنية كتتبع الموقع الإلكتروني أو السوار الإلكتروني.
5. إلزامه بأداء أعمال أو التزامات عامة يحددها القضاء.
6. إلزامه بالإقامة في مكان محدد.
7. إلزامه بالامتثال لمراجعات قضائية دورية.
هذه البدائل تمثل ثورة في الفكر الإجرائي المصري، إذ تجعل الحرية هي الأصل، والحبس الاحتياطي استثناء مشدد بشروط وضمانات.
سادسًا: المراجعة الدورية للحبس الاحتياطي
استجابة لتوصية اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان بوزارة الخارجية، نص القانون على ضرورة عرض أوراق كل قضية بها متهم محبوس احتياطيًا على السيد المستشار النائب العام كل ثلاثة أشهر،
لإعادة تقييم موقف الحبس، إما باستمراره أو استبداله بإجراء بديل.
وهذا يعني أن الحبس الاحتياطي لم يعد قرارًا مفتوح المدة، بل أصبح خاضعًا للمراجعة القضائية المستمرة بما يمنع أي تعسف أو إطالة دون مبرر.
سابعًا: دمج الإعلان الإلكتروني في الإجراءات القضائية
أقرّ القانون الإعلان بوسائل تقنية المعلومات بجانب الإعلان الورقي، تحقيقًا للتحول الرقمي وتسريع التواصل بين أطراف الدعوى، مع الإبقاء على الطرق التقليدية في حالة تعذر الوسائل الحديثة، ضمانًا لاستمرارية التقاضي دون تعطيل.
ثامنًا: ضمانات المحاكمة الغيابية في الجنايات
ألزم القانون المحكمة بتأجيل جلسة الاستئناف لمرة واحدة إذا تعذر حضور المتهم أو محاميه الخاص في قضايا الجنايات، بما يتيح له فرصة الحضور والدفاع عن نفسه،
وهو ما يعكس فلسفة المحاكمة العادلة التي لا تفصل في القضايا إلا بعد تمكين الدفاع من أداء دوره الكامل.
تاسعًا: البعد الإنساني في رؤية السيد الرئيس
إن تدخل السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في هذا القانون لم يكن تدخلاً شكليًا أو إداريًا، بل كان تدخلًا جوهريًا لحماية حق الإنسان المصري في الحرية والعدالة.
فحين أعاد القانون إلى مجلس النواب لم يكن اعتراضًا على المبدأ، بل مراجعة من أجل الكمال التشريعي، وإضافة ضمانات جديدة تحفظ كرامة المواطن.
لقد أثبت السيد الرئيس من خلال هذا الموقف أن الدولة المصرية لا تسعى فقط إلى فرض القانون، بل إلى إنفاذه بعدالة وإنسانية، وأن حقوق الإنسان ليست شعارًا سياسيًا بل نهج دولة ومبدأ دستوري.
عاشرًا: مصر والالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان
يتسق هذا القانون الجديد مع توجهات الدولة في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي أطلقت عام 2021، والتي أكدت على أن إصلاح التشريعات الإجرائية هو أحد أعمدة حماية الحقوق المدنية والسياسية.
وبذلك، تبرهن مصر على التزامها العملي—not الخطابي—بالمواءمة بين العدالة والحرية، وبين سلطة الدولة وحقوق الفرد.
فائده هذا القانون
بهذا القانون، تنتقل مصر من مرحلة “إدارة العدالة” إلى مرحلة “بناء العدالة”،
فالقانون الجديد لا يكتفي بمعالجة القضايا بعد وقوعها، بل يضع ضوابط مسبقة تحول دون الانتهاك وتضمن سلامة كل إجراء منذ لحظة القبض وحتى صدور الحكم.
إنها خطوة تؤكد أن الجمهورية الجديدة لا تبنى فقط بالمشروعات القومية والنهضة الاقتصادية، بل أيضًا بترسيخ سيادة القانون وضمان كرامة الإنسان المصري.









