منذ وصوله إلى السلطة، عُرف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقراراته المفاجئة التي تتصادم مع ما يُعرف بـ”الدولة العميقة”، التي صاغت معالم القيادة الأمريكية للعالم منذ الأربعينات، وأدارت النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة.
ترامب بدا وكأنه يريد تغيير قواعد اللعبة، من قيادة تقوم على التحالف والشراكات إلى قيادة تفرض الخضوع الكامل للإرادة الأمريكية.
من “أمريكا أولاً” إلى ابتزاز الحلفاء
في ولايته الأولى ثم الثانية، أعاد ترامب تعريف علاقة واشنطن مع أوروبا والناتو والاتحاد الأوروبي، فتحولت من تحالف استراتيجي إلى علاقة ابتزازية: إما التنازلات أو الاستعداء.
شعاره “أمريكا أولاً” لم يكن مجرد دعاية انتخابية، بل أصبح محورًا للسياسات الاقتصادية (التعريفات الجمركية) والأمنية (الموقف من الناتو) والسياسية (الأزمة الأوكرانية وانحيازه لموسكو).
فلسطين.. اختبار القوة الدبلوماسية
الموقف من القضية الفلسطينية يعكس التحول ذاته: تجاهل كامل للقضية في المحافل الدولية، استنادًا إلى أن وجود الأمم المتحدة على أرض أمريكية يمنح واشنطن حق التحكم في جدول أعمالها.
وهو ما ظهر في التعامل مع الوفد الفلسطيني في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي لحظة مشتعلة من العدوان على غزة.
“وزارة الحرب”.. لغة جديدة للهيمنة
أكثر القرارات إثارة للجدل كان تحويل اسم وزارة الدفاع (البنتاجون) إلى وزارة الحرب.
الفارق ليس شكليًا: الدفاع يوحي بالحماية والردع، بينما الحرب تحمل مدلولًا هجوميًا توسعيًا وقمعيًا.
ترامب لم يخفِ أطماعه في التوسع: من الحديث عن ضم كندا إلى السيطرة على جرينلاند، وصولًا إلى أطماعه في قناة بنما.
انقلاب على مبادئ الشرعية الأمريكية
لطالما استندت الحروب الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية إلى “أقنعة أخلاقية”:
- فيتنام تحت شعار “الدفاع عن الحرية”.
- أفغانستان 2001 بدعوى “الحرب على الإرهاب”.
- العراق بحجة “أسلحة الدمار الشامل”.
لكن قرار “وزارة الحرب” يعلن سقوط هذه الأقنعة، لصالح شرعية واحدة: القوة العارية.
مأزق القوة بلا غطاء
التحول قد يعزز صورة واشنطن داخليًا كقوة قادرة على فرض إرادتها، لكنه في الخارج يسرع انكشافها أمام الحلفاء والخصوم.
الحلفاء الذين طالما غطوا الهيمنة الأمريكية بخطاب “القيم المشتركة” قد يتجهون إلى شركاء بدلاء، وعلى رأسهم الصين.
خاتمة
“وزارة الحرب” ليست مجرد تعديل لغوي، بل هي إعلان رسمي عن مرحلة جديدة: مرحلة لا مكان فيها للتحالفات أو القيم أو الشرعية الدولية، بل لمنطق القوة فقط.
لكن هذا المنطق، وإن منح أمريكا تفوقًا قصير المدى، فإنه يهدد على المدى الطويل الأسس التي قامت عليها زعامتها، ويفتح الباب أمام نظام دولي جديد قد يكتب النهاية للتفرد الأمريكي.